الشاعر عز الدين المناصرة...احبك في الله
مقال جميل وخطير
شعريّة الابيض المتوسط .. بحر أمورو الكنعاني العظيم
عز الدين المناصرة -
ولدتُ بين بحرين: أحدهما (ميت)، والآخر (أبيض متوسط). ولم يظهر اسم (الأبيض المتوسّط)، إلا بعد أن استخدمه (سولينوس) في النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، وهكذا كنتُ من جبل في بلدة (حلحول) الخليلية، الواقعة في مدخل مدينة الخليل، أشاهد البحر الأبيض المتوسط، الذي يبعد حسب خطّ هوائي عن البحر، حوالي ستين كيلومتراً. هذا الجبل في حلحول، هو أعلى نقطة في فلسطين كلها، إذْ يرتفع عن سطح البحر، حوالي (997 متراً)، لكنني لم أكن أستطيع أن ألمس ماء البحرين، بل كان وما زال ممنوعاً علينا فعل ذلك، لأنّ (الدولة-الخازوق)، تقف عائقاً دون ذلك، أي لم يكن يحقّ لي سوى النظر من بعيد. وهكذا بدأتْ علاقتي بالبحر الأبيض المتوسط، بعد أن غادرتُ فلسطين عام 1964، إلى المنافي الإجبارية، بعد أن أصبحتُ ممنوعاً من دخول فلسطين منذ كارثة عام 1967، التي سمّاها محمد حسنين هيكل: (نكسة)، من باب التخفيف على الرأي العام، رغم أنها كانت (نكبة ثانية)، بامتياز، حيث استكملت (الدولة - الخازوق)، احتلال ما تبقى من فلسطين: (الضفة الغربية)، التي كانت تحت الحكم الأردني، و (قطاع غزّة)، الذي كان تحت الحكم المصري، بعد أن تمَّ تهجير مليون فلسطيني عام 1948 من منطقة ( 48 ). وهكذا أصبحتُ (لاجئاً فعلياً) في المنافي، دون أن يعترف أحدٌ بأنني (لاجئ)!!، بل لم أعترف في داخلي أنني لاجئ، لأنني كنتُ دائماً على قائمة الانتظار الطويل الطويل الطويل: كلُّ شيء مؤقت. الإسكندرية أوّلاً: سبحتُ في مياه المتوسط لأوّل مرّة عام 1966 في (الإسكندرية). عشقتُ البحر، أنا القادم من أعالي جبال الخليل: أصحو لأجلس قليلاً في شرفة المنزل، أراقبُ الصيّادين، وهم ينتظرون أن تلتقط صنانيرهم، بعض الأسماك التي دفعها الموج إلى الشاطئ.
أنتظر (أماندا) الإغريقية، ذات الثمانية عشر ربيعاً، كي نقيم قصوراً في رمل الشاطئ. أتعرَّف في الماء إلى مُمثّل ناشئ آنذاك، اسمه (نور الشريف)، الذي التقيته لاحقاً في مهرجان طشقند السينمائي، عام 1976: أذهبُ إلى مطعم شعبي لتناول وجبة سمك طازجة، قرب مسجد (المرسي أبو العبّاس). أعود إلى المنزل، لأجلس ثانية في الشرفة، أتأمل الأبيض المتوسط. في المساء، أتصل هاتفياً ب (أماندا)، لنكسدر على الكورنيش، ثمّ نجلس في مقهى بحري مختلط. أودّع أماندا، وأكمل الليل: عرف شعراء وأدباء الإسكندرية بوجودي، فالتقينا في مقهى في قلب البحر، نصل إليه عبر جسر. أوغلُ في الليل، لأستمع إلى أغاني (سيّد درويش) في إحدى حانات الأبيض المتوسط. لم أكن أتصوّر أنني سألتقي لاحقاً بحفيد سيد درويش، (المطرب إيمان البحر درويش)، (ليس في الإسكندرية)، بل في عمّان، حيث تشاركتُ معه في حلقة تلفزيونية، لصالح قناة (الرسالة)!!. وفي صيف 1968، ذهبت إلى الإسكندرية، التي تعني لي : البحر. صُدمتُ حين عرفت أنَّ (أماندا)، قد هاجرت مع أسرتها إلى أستراليا. كان البحر الأبيض المتوسط، شاهداً على خفقات القلوب المحترقة. ومنذ نهاية الستينات، لم أزر بحر الإسكندرية حتى عام 2003: فجأةً، تلقيتُ دعوةً للمشاركة في (المهرجان الدولي الشعري الأوّل لشعراء البحر الأبيض المتوسط). هكذا أصبحتُ شاعراً متوسطياً. كانت تلك الرحلة من أجمل رحلاتي الشعرية. استقبلني أدباء مصر والإسكندرية بترحاب شديد، واستعدنا بعض الذكريات. صارت الإسكندرية أجمل، رغم الزحام. زرتُ منزل أحد شعرائي المفضّلين: (كفافيس)، اليوناني المصري الإسكندراني، الذي تحوّل إلى متحف. ألقيتُ أشعاري في قاعات مكتبة الإسكندرية. سبحتُ في منطقتي البحرية المفضّلة (المنتزه). سهرتُ مع بعض شعراء اللهجة المصرية في مقهى شعبي، وكان بعض شعراء الحداثة، يتناقشون حول مصطلح (المعادل الموضوعي) لإليوت، حين دخل أحد شعراء اللهجة البسطاء، فاستمع إلى الحوار، وتساءل ببساطة: (تطْلعْ مين دي.. أُمُّ عادل الموضوعي!!). وضحك الجميع. بيروتُ يا بيروت: شمس المتوسط: أقوى علاقة لي مع الابيض المتوسط، كانت في بيروت، حيث كان البحر صديقي الدائم، من شواطئ بيروت، مروراً بشاطئ (الصرفند)، وحتى شاطئ صور، حيث تفوح منه رائحة التاريخ. ورغم أنني عشت سنوات قليلة في بيروت، إلاّ أنَّ صلتي بها، كانت وما تزال قويّة: ولدت زوجتي في بيروت على مقربة من البحر. ولد ابني عام 1979 في بيروت. وكانت علاقتي بشاطئ (الدامور)، و (السعديات)، بين بيروت وصيدا، قوية، حين كنت مديراً لمدرسة أبناء وبنات مخيم (تلّ الزعتر) في الدامور بعد تهجيرهم في صيف 1976. أما شاطئ مدينة (صيدا)، فقد سبحت فيه قرب (الجزيرة السوداء).
هناك علَّمني فتىً فلسطينيٌ من مخيم (عين الحلوة)، كيف أسبح على ظهري لأول مرّة، إذْ كنتُ قبل ذلك أخاف من السباحة على الظهر. قال لي: أتركْ جسدك في قلب الماء، واخفض رأسك، ولا تخف، ولا تتوتر، ستجد جسدك يطفو من تلقاء نفسه. وهناك كنت أشاهد صديقي الفدائي الفلسطيني (أبو النور)، وهو يُفكّكُ ساقه الصناعي، بعد عملية فدائية جُرح فيها، لينساب بليونة ومهارة في الماء لمسافات طويلة. وفي (استراحة صور) البحرية، كنت أرقب الموج الأبيض يتدافع أمامنا، قادماً (ربَّما!!) من (عكّا) الفلسطينية، مدينة زوجتي. ولم أكن كنتُ قد ركبتُ في حياتي سفينة ضخمة، إذْ قد ركبتُ قبل ذلك، قوارب في نهر النيل في القاهرة، تلك التي كانت تأخذنا نحو (القناطر الخيرية)، لكنّ الصدفة تجبرني هذه المرّة على الرحيل من بيروت مكرهاً، لأركب سفينة يونانية، اسمها (شمس المتوسط) من ميناء بيروت إلى ميناء (طرطوس) السوري، بتاريخ (1/9/1982) في نهاية حصار بيروت، الذي عشته كاملاً، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. استدعاني الشهيد (العميد سعد صايل)، قائد القوات الفلسطينية - اللبنانية المشتركة في معركة حصار بيروت، بصفتي مندوباً عن مركز الأبحاث الفلسطيني، وسألني عن الجهات التي يرغب زملائي الذهاب إليها. أجبته: الجزائر، واليمن، باستثنائي شخصياً، إذْ لا أعرف أين أذهب، وحين لاحظ حيرتي، قال: أنصحك بسفينة طرطوس، وحين تصل دمشق، تتدبّر أمرك. ولاقت الفكرة هوىً في نفسي.
هكذا حملتْ السفينة اليونانية (شمس المتوسط)- (682 فدائياً وطفلاً وامرأة)، كنتُ أحدهم. كانت الطائرات الفرنسية تطير فوقنا، تراقب السفينة من ميناء بيروت حتى ميناء طرطوس. انطلقت السفينة في الساعة الثانية عشرة ظهراً، ووصلت في التاسعة مساءً، حيث كانت (شبابيك الحلوة) في طرطوس، مضاءةً بالكهرباء، ولكنّ (الحرس في الميناء)، منعنا من أن نبوسَ الشبابيك، أو حتى أن ندخل المدينة. كانوا قد جهّزوا سبعة باصات ضخمة لنقلنا إلى معسكر للجيش السوري، يقع على بعد حوالي ثلاثين كيلومتراً من دمشق. كان معي على ظهر السفينة الشاعر العراقي سعدي يوسف، والفنانة المصرية نادية لطفي، وعددٌ من القيادات السياسية: صلاح خلف (أبو إياد)، وأبو موسى (حركة فتح)، وأبو ماهر اليماني (الجبهة الشعبية) وغيرهم. لقاء المتوسّط بالأطلسي: تعبثُ بك الصدفة: فلم أكن أفكّر في يوم من الايام، أنني سأعيش في تونس والجزائر في الفترة (1982-1991)، ولكن ذلك حدث بالفعل. كان (فندق سلوى) التونسي، هو مقرّ القيادة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات. أقمت مع زوجتي وطفلي في الغرفة الملاصقة لمكتب عرفات في هذا الفندق. لم يكن يُسمح لنا بالخروج من الفندق الذي يقع في الضواحي إلى تونس العاصمة، إلا بإذن مكتوب، مُوقَّعٍ من (العقيد داود أبو الحكم)، ولساعات محدّدة، ولكن سُمح لنا بعد شهرين، استئجار منزل في تونس العاصمة. هكذا سكنتُ في منزل على شاطئ (صلامبو) في شارع الكاهنة، وأصبح البحر المتوسط جاري، إذْ لا يبعد عن المنزل، سوى بضعة أمتار. وحين حدث الانشقاق في حركة فتح بين (جماعة تونس)، و (جماعة الشام)، عام 1983، قررتُ الرحيل إلى الجزائر، حيث عشتُ في مدينتي (قسنطينة)، و (تلمسان)، المسافة بينهما هي (1100 كم). كان البحر الأبيض المتوسط في هذه المرحلة صديقي: بحر عنّابة، بحر جيجل، بحر سكيكدا في الشرق الجزائري، وبحر بني صاف قرب تلمسان، وبحر وهران في الغرب الجزائري، قرب الحدود المغربية، حيث يختلط البحر بأصوات الموشّحات الأندلسية، وباللغات الفرنسية والإسبانية، والأمازيغية والعربية. وفي هذه المرحلة، كنّا نسبح في بحر (السعيدية)، المغربية القريبة من مدينة (وجدة)، الشهيرة بالغناء الغرناطي. سافرتُ بالقطار نحو مدينة (طنجة)، وهي مدينة مغربية عالمية، حيث ترى (جبل طارق) بالعين المجرّدة. كنتُ في شاطئ طنجة مع صديقي المغربي عبد اللطيف بن يونس (المذيع في إذاعة طنجة)، نفتّشُ عن صديقنا الروائي (محمد شكري)، في حانات الشاطئ، وحين وصلنا إلى حافة اليأس من العثور عليه، قالت لنا إحداهُنَّ: (سي شكري، معه دراهم كثيرة هذه الأيام، ولم يعد يأتي هنا إلاّ قليلاً. ستجدونه في فندق في الجبل). وفعلاً، وجدناه هناك قُرْبَ زجاجته: سهرنا مع شكري، ثلاث ساعات متواصلة، واستأذناه. طلب رقم هاتف الفندق الذي أقيم فيه، فكتبتُه على وُريقة، ووضعته في جيب قميصه. عصر اليوم التالي، اتصل بي هاتفياً، مُعاتباً: (تأتي إلى طنجة، ولا تسأل عني!!). ضحكت وقلت له: تعال وسوف نتحدث. كان صديقي المغربي، قد أخذني إلى آخر نقطة في شاطئ المتوسط، وقال لي: أدخلْ في الماء. لماذا. قال: أدخلْ فقط. دخلتُ بقدمين حافيتين في الماء. قال لي: ماذا تشعر. قلت: (ماءٌ دافئ، وماء بارد!!). قال: هنا يلتقي البحر الأبيض المتوسط مع المحيط الأطلسي.
سبحنا في (بحر طنجة)، وبحر (مدينة أصيلة)، وعدنا إلى شاطئ مدينة المحمدية بالقطار، قرب الدار البيضاء. استأجر لنا الصديق محمد بنّيس، منزلاَ، وكنّا نذهب كلّ يوم للسباحة في (بحر المحمديّة)، لكنه هنا في المحمدية، ليس البحر الأبيض المتوسط، وإنما هو المحيط الأطلسي، حيث بُني في ماء المحيط بالدار البيضاء (مسجد الماء)، وهو تحفة فنيّة عظيمة لا مثيل لها. هكذا أكون قد سبحتُ في الإسكندرية، وبيروت، وتونس، والجزائر، ووصلت إلى آخر نقطة في البحر المتوسط عند لقائه بالمحيط الأطلسي قرب طنجة. وحده، بحر فلسطين: بحر عكّا وحيفا ويافا وعسقلان وغزّة، بقيتُ ممنوعاً من الوصول إليه، طيلة حياتي. مُدُنُ المتوسط: مستطيل غير متناسق، هو المتوسط. قاعدته الجنوبية، عربيةٌ مئة بالمئة من بور سعيد المصرية، حتى طنجة المغربية. أما قاعدته الشرقية، فهي عربية مئة بالمئة أيضاً من غزّة حتى الإسكندرونة، باستثناء مشكلتين: الأولى هي مشكلة (أنطاكية والإسكندرونة)، وهما سوريّتان، حيث تبدأ حدود تركيا الفعلية من (أضنة) التركية، وهذه المشكلة اختلقها الاستعمار. أما المشكلة الثانية، فهي احتلال إسبانيا لمدينتي (سبتة، ومليلة) المغربيتين، وهما من الناحية الطبيعية جزء لا يتجزأ من المغرب، لأنهما تقعان على الشاطئ الشرقي للمتوسط. وتقع المدن المتوسطية العربية على الشاطئ الجنوبي والشرقي للمتوسط في البلدان التالية: (فلسطين، سوريا، لبنان، مصر، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب). ومن أشهر هذه المدن العربية المتوسطية: غزّة ، يافا، حيفا، عكّا، صور، صيدا، بيروت، طرابلس، طرطوس، بانياس، جبلة، اللاذقية في الجهة الشرقية للمتوسط. وبور سعيد، دمياط، الإسكندرية، طبرق، درنة، البيضاء، بنغازي، طرابلس، قابس، سوسة، تونس، بنزرت، عنّابة، سكيكدا، بجاية، الجزائر، مستغانم، وهران، سبتة، مليلة، تطوان، طنجة... وغيرها، وكلّها في القاعدة الجنوبية للمتوسط. وتتفرع من البحر الأبيض المتوسط، بحور فرعية، منها: بحر إيجة بين اليونان وتركيا، والبحر الأدرياتيكي يبن اليونان وإيطاليا، والبحر التيراني، القريب من (الحذاء النِسْوي الإيطالي). وهناك أيضاً عدد من الجزر المشهورة في المتوسط، مثل: (قبرص، كريت، سردينيا، كورسيكا، جزر البليار، رودوس، مالطة). أمّا شمال المتوسط فتقع دول أوروبا: (إسبانيا، فرنسا، إيطاليا، يوغسلافيا، ألبانيا، اليونان)، إضافة إلى تركيا.. الخ، بمدنها المتوسطية الشهيرة. وهكذا، فإنّ الشراكة بين العرب وأوروبا، حول المتوسط، هي شراكة طبيعية، تحكمها دكتاتورية الجغرافية، وثقافة المتوسط المتشابهة إلى حدّ كبير، وكان يحكمها الصراع أيضاً. الصراع على المتوسّط: (... إلاّ بإذنٍ من قرطاجة الكنعانية): يقول المؤرخون القدامى: (كانت الإمبراطورية الرومانية، لا تجرؤ على الاغتسال بماء المتوسط، إلاّ بإذن من قرطاجة الكنعانية). وقد أطلق الكنعانيون على البحر الأبيض المتوسط، لقب: (بحر أمورو الكنعاني العظيم)، و (البحيرة الكنعانية). أما الرومان (الذين اشتهروا بأنهم قومٌ لا خبرة لهم ولا معرفة بتقاليد البحر)، حسب (جوفري ريكمان)، فإنّ البحر المتوسّط هو الذي أتاح المجال الرئيسي لتوسيع الإمبراطورية، حيث أطلقوا عليه لقب: (بحرنا - mare nostrum)، وأصبح البحر خالياً تماماً من القراصنة في الفترة من العام (36ق.م)، وحتى القرن الثالث الميلادي، مما زاد في حجم التجارة مع الشاطئ الجنوبي والشرقي من المتوسط، حيث حملت السفن البضائع، (القمح والنبيذ وزيت الزيتون، والخشب والمعادن) من مصر وأرض كنعان إلى روما. وتبلغ مساحة سطح البحر المتوسط، حسب ريكمان أيضا: (96:2 مليون كيلومتر مربع)، ويبلغ حجمه : (24:2 مليون كيلومتر مكعّب)، وهو أكبر بحر داخل اليابسة، وأحواضه الرئيسة، تصل أعماقها إلى أعماق المحيطات، والحوض الغربي له قاع مسطّح عند عمق نحو (2700متر)، كذلك الحوض الشرقي- ثمّ وصلتْ الحياة التجارية لروما، إلى حالة الانحطاط الشديد، بشكل مطَّرد حتى القرن السادس الميلادي، قرن انحطاط روما.
يتبع...