بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء.
حديث شريف
من الممكن تتبُّع جذور مفهوم الاغتراب alienation عميقاً في كتابات أوائل المفكرين الإغريق. فمن سقراط، إلى نظرية الفيض عند أفلوطين، ثم الأفلاطونية الحديثة، فانتقالها فيما بعد إلى اللاهوت المسيحي. ثم سارت هذه الموضوعات قُدُماً إلى الأمام حين بدأت تسقط عنها أرديتُها وتفسيراتُها الميتافيزيائية القديمة مع التغيرات العلمانية التي طرأت على الفكر الأوربي في عصر التنوير.
لذلك، إذا قلَّبنا هذا المفهوم عبر مسيرة الفكر الإنساني نلاحظ تعدد، بل تشتت، تفسيراته ومضامينه، مما يؤكد طابعه المركَّب؛ حيث لقي الكثير من الاهتمام لدى المفكرين، من روسو إلى هيغل وماركس ونيتشه، بحيث حمل عدة معانٍ تتراوح بين مختلف المواقع الإيديولوجية:
1. الاغتراب بمعنى الانفصال بين الذات والواقع (وحتى، أيضاً، شعور الإنسان باختلاف ذاته عن الآخرين)، وافتقاد الإحساس بالعلاقة بينهما؛ ومن بعدُ انعدام الشعور بالقدرة على تبديل الواقع، ثم افتقاد القدرة على اكتشاف المغزى والعبرة القيمية من الحياة.
2. تلاشي المعايير والعزلة النفسية عن المجتمع، ثقافياً وحياتياً؛ ومن بعدُ الاغتراب عن الذات self-alienation.
3. البحوث النفسية التي عالجته، من حيث كونه ناتجاً عن تعرُّض الفرد لرضوض نفسية نتيجة انتزاعه من بعض الأشياء أو الناس الذين يحبهم (العمل، الأم، الحب، أو القوى الغيبية، أو المجتمع).
4. أما لغوياً فهو يعبِّر عن حرمان الإنسان من أشياء يحبها، أو عن ابتعاده عن شيء أو شخص يرغبه أو يحبه بطبيعته أو غريزته؛ وهو تعبير عن ضياع وافتقاد هذا الشيء.
ولئن كان من العسير التوصل إلى حدود فاصلة لتقسيم مواقف مختلف المفكرين على ضوء هذا التصنيف فإن هدفنا من سرده هو تمييز مختلف جوانب الرؤيا التي عولجت بها فحسب. فبعض المفكرين اتجهوا إلى معالجة هذه القضية من جهة كون الاغتراب ناتجاً عن الانتزاع من البيئة التي تربَّى فيها الإنسان (بمعنى الانسلاخ الطبقي)، كما حصل في المجتمعات الرأسمالية المبكرة (راجع أبحاث بعض المؤرخين الإنكليز)؛ وآخرون عالجوها بمعنى الانفصال: أي الانفصال بين المستويات المختلفة للمعرفة، كما في كتابات هيغل؛ وآخرون أيضاً عالجوها من جهة كون الاغتراب ناجماً عن الشعور بانعدام القدرة والسلطة والعجز، كما يتجلَّى ذلك في أبحاث ماركس – بمعنى أن هؤلاء جميعاً جنحوا إلى تحميل الظروف الموضوعية للأفراد مسؤولية هذه الحالة. أما مانهايم فلقد نظر إلى الاغتراب من جهة افتقاد المغزى، وخاصة في ظروف المجتمع الصناعي، أو في ظروف التفرقة العنصرية. ويرى مرتون في الاغتراب تعبيراً عن العزلة وانقطاع التواصل العاطفي والثقافي بين الفرد ومجتمعه، بل وانفصال القيم الأخلاقية والثقافية لديه عن القيم العامة للمجتمع.
لن نمضي أبعد من ذلك في الحديث العمومي عن قضية الاغتراب؛ ذلك أن ما يهمنا طرحه في هذه الورقة هو تتبُّع هذا المفهوم كما تجلَّى لدى بعض الباحثين الإسلاميين الأُوَل، وفي مفهوم كل من فويرباخ وماركس، ومن بعدُ الأنثروبولوجيين المحدثين، لهذه القضية؛ إذ لقد لاقى هذا المفهوم على أياديهم المزيد من التطوير والتعميق، حيث يركز هؤلاء على أن الاغتراب لم يكن قضية تخص مرحلة معينة من مراحل التطور الإنساني، ولا هي حالة تتعلق بمجتمع معين أو تنظيم اقتصادي عابر، وإنما هي ظاهرة يمكن تتبُّعها منذ ظهور المجتمع البشري الأول.
جاء في الحديث الشريف: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء." تختلف الروايات في استعراض ردود الرسول في تفسير كلمة "الغرباء"، لكنها تُجمِع على القول بأن مفاده هو بقاء قلة من المؤمنين، يجدون أنفسهم في حالة من الغربة عن جملة المجتمع الإسلامي، والافتراق بين قيمهم، من جهة، وبين الواقع المعيش، حتى في إطار المؤسسة الاجتماعية الإسلامية، من جهة أخرى.[1]
إذاً فطوبى للغرباء! إذ لا يُعتبَر الإيمان في الإسلام بحدِّ ذاته كافياً، ولا هو بالحل الناجز لغربة الإنسان! بل إن هذه الغربة باقية نتيجة افتراق المفاهيم والقيم والأخلاق الاجتماعية المعيشة فعلاً عن المفاهيم والقيم والأخلاق النابعة من الرؤية المتبصِّرة العميقة للمؤمن الحقيقي الذي يصير "كالقابض على الجمر"، حتى في المجتمع وفي إطار المؤسسة الإسلامية. طوبى للغرباء الذين يعانون من الغربة، لا بمعناها الجغرافي والمادي، بل بمعناها الروحي والنفسي. طوبى للغرباء من المؤمنين لأن في غربتهم ألماً! فليُثابوا عليه. وبالتالي لا يُنظَر هنا للغربة على أنها ظاهرة غير مفيدة، أو أن من الممكن تجنبَّها، بل يشير الحديث الشريف إلى أنها تجلٍّ لعمق الإيمان.
إذا كان الدين اليهودي، في تفسيراته التلمودية، مبنياً على أن الله هو مصدر الثواب والعقاب، ويتدخل أولاً بأول في قوانين الطبيعة، وإذا كانت المسيحية قد أكدت أن الله يحب ويغفر، فمن المفيد أن نلحظ أن مناهج التنوير في الإسلام (على النقيض من المناهج السلفية) حاولت التأكيد على استقلال العقل. يقول محمد عبده: "إن الإسلام هو إعلان حرية واستقلال العقل والإرادة." ورسالة التوحيد هذه هي نفيٌ للمعجزات وللخوارق وللطقوس والشعائر الكهنوتية. إذ لقد وُصِف الحسن البصري وسفيان الثوري كلاهما بالغربة؛ ويقال إن أحمد بن عاصم الأنطاكي (المتوفى عام 215 هـ) قال: "إن أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريباً كما بدأ. إن ترغب فيه إلى عالمٍ، وجدتَه مفتوناً بحب الدنيا، يحب التعظيم والرياسة؛ وإن ترغب فيه إلى عابدٍ، وجدتَه جاهلاً في عبادته، مخدوعاً صريعاً، غدره إبليس، قد صعد به إلى أعلى درجات العبادة، وهو جاهل بأدناها، فكيف بأعلاها؟!"
لم تفعل الرسالة المحمدية في مكة، من حيث جوهرها، إلا تكرار رسالة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء؛ إلا أنها في المدينة، وقد غدت سلطة دولة، لم يعد يكفيها أن يصعد توجُّه الناس نحو الخلاص الفردي، إلى روحانية الإنسان؛ بل كان عليها أن تتصرف كسلطة وكدولة، وكان عليها تكريس هذه القيم كمؤسِّسة لهذه الدولة، حيث تبلور مفهومُ الإنسان المُستَخْلَف. والمسؤولية الواحدة الموحَّدة تجاه الله هي التي تشكل الأساس الإنساني للديمقراطية.
وعلى الرغم أن الشهرستاني يحيل كل الملل والنحل إلى الشبهة الأولى لإبليس، وإلى إعمال العقل فيما هو ليس مخولاً له ("إحكام العقل على من لا يُحتَكم عليه")، وأن كل من يُعمِل العقل في هذه الأمور هو إما مقصِّرٌ أو مغالٍ، فإن ابن حزم يقول إن الله حث على إعمال العقل وذمَّ التقليد والمقلدين، بل رأى الإيمان قائماً على الاستدلال: "لا يصحُّ إسلامُ أحدٍ حتى يكون بعد بلوغه شاكاً غير مصدق." ويرى الططري ذات الرأي، كما يرى بأن العقل هو مناط التكليف. ويسير على نسق هؤلاء المفكرين "العقلانيين" الهروي الأنصاري، فيعرِّف الاغتراب بأنه "أمر يشار به إلى الانفراد عن الأكفاء". ويضع السهروردي أساس مفهومه عن الاغتراب من وجهة النظر الصوفية الإشراقية، حيث "العارف في شاهده غريب". وكذا القشيري يقول: "الزاهد غريب في الدنيا، والعارف غريب في الآخرة."
مضت المناهج الصوفية بعيداً في هذا البحث والطريق إلى تجاوز غربة الإنسان. وبدت هذه الموضوعة بالنسبة للصوفية من أكثر الموضوعات تعمقاً في مسعاها لفهم العلاقة بين الخالق والمخلوق، وبين المخلوق وذاته، وبين المخلوق والمخلوق الآخر؛ حيث تمثل الصوفية تجربة تسعى لحلِّ مشكلة الاغتراب عن طريق التجربة الذاتية بين الحق والخلق، "دون حلول ولا صيرورة". من ذلك ما تداولتْه الصوفية عن عبد الله بن عمر، إذ روى قول الرسول الكريم: "أحَبُّ شيء إلى الله الغرباءُ. قيل: ومن الغرباء؟ قال: الفرارون بدينهم، يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى بن مريم عليهما السلام."
وقبل هؤلاء بكثير كان أبو ذر الغفاري، الذي أراد معاوية بن أبي سفيان أن يمتحنه في دعوته إن كان صادقاً، فبعث إليه بألف دينار؛ فلما أصبح أراد أن يستردها منه بحيلة، فوجد أنه قد فرَّقها كلها. ثم بعث له بثلاثمائة دينار مع حبيب بن مسلمة أمير الشام، فقال لحاملها: "ارجع إليه بها. أما وجد أحداً أغرب لله منا."
ولعل من أمتع الأمور وأكثرها فائدة، في هذا السياق، التعمق في بحث مفهوم محيي الدين بن عربي للاغتراب. فعلى الرغم من أن ابن عربي لم يستخدم هذا التعبير بذاته، فإنه، إذ يدفع بنظريته عن الفناء والبقاء (الفناء عن الجهل والبقاء بالعلم)، يتحدث عن تحقق صلة النفس بالعقل، حيث لا تنظر النفس إلى الواحد باعتباره شيئاً خارجاً عنها، أو غريباً عن طبيعتها، بل باعتباره قائماً بها، متواصلاً معها؛ فتفنى ذاتُها باتصالها التام به. إذاً يتلخص هدف الإنسان من المعرفة الإنسانية عند ابن عربي في خلاصه من غربته، في تحقيق تَلامُس الذات بأعمق أعماقها. وبهذا المعنى يبدو الاغترابُ الدافعَ الأساسي والمحرِّكَ الأهم للمعرفة البشرية.
ولعل بعضهم يعترض، هنا أو في مواضع لاحقة من هذه الورقة، قائلاً بأن المنهج المعرفي لابن عربي هو منهج إشراقي، تلعب فيه الخبرة الصوفية، لا العقلية، دور الأداة المعرفية. ولكي نزيل هذا الافتراق، أو لكي نضيِّقه، لا بدَّ أن نستعرض بإيجاز مفهوم ابن عربي عن "وحدة الوجود" و"وحدة الشهود". فهو يرى أن الوجود بأسره حقيقة واحدة، ليس فيها ثنائية ولا تعدد. وعلى الرغم مما قد يبدو لنا من افتراق الخالق والمخلوق، ما ذلك إلا اسمان أو وجهان للحقيقة الكونية. فإن نظرت إليها من منظور وحدتها بدت لنا حقاً؛ وإن نظرت إليها من منظور كثرتها وتعددها بدت لنا خلقاً. فكما في جاء في فصوص الحكم:
وليس خلقاً بهذا الوجـه فأدركوا
فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا
وهـي الكـثيرة لا تُبـقِ ولا تَذِرُ
جمـعٌ وفرقٌ فإن العـين واحدة
كذلك قوله في موضع لاحق:
أنت لـما تخلقه جـامع
يا خالق الأشياء في نفسـه
فأنت الضـيِّق الواسـع
تخلـق ما لا ينتهي كنـهه
إن ما يُحدِث التصور بالكثرة في الوجود هو العقل؛ أما حقيقة الموجودات فواحدة.