لمصطلح العزلة في تاريخنا العربي دلالات تتخطي المعني الشائع والاكثر رواجا، شأن العديد من المصطلحات التي تعرضت الي تسطيح، او فلطحة بالمعني الذي عبّر عنه سارتر في حواره الشهير مع الماركسي نافيل، ويكفي ان نتذكر المعتزلة وما كان هذا المصطلح يعنيه فقهيا وفلسفيا، عندما تحولت جماعة اسلامية الي العقل واحتكمت اليه بل حوّلته الي حاضنة فلسفية.
ان الفارق بين المعتزل والمعزول هو اكثر من فارق تقليدي ونحوي بين اسم الفاعل واسم المفعول، فالمعتزل يختار ان ينأي عن السرب ويخرج عن السياق بخلاف المعزول الذي عبّر عنه تراثنا الأدبي بوصفه بعيرا أجرب او عنزة سوداء، وهناك ثلاث عزلات علي الأقل، ينبغي ان نتفحصها قبل أن نصل الي العزلة الرابعة.
العزلة الاولي: اجتماعية ذات بعد سياسي، تتم من خلال الاقصاء، او التهميش، وقد عبّر عنها بشكل دقيق وأكاديمي الطاهر بن جلون في اطروحة حملت عنوان اقصي العزلات ، ومثالها الحي المهاجرون العرب والافارقة الي فرنسا، الذين ضمرت حتي اعضاؤهم التناسلية بسبب توارث الكبت العضوي والنفسي، ووجدوا أنفسهم في جيتوهات من الصفيح، علي الهامش وقد حرموا من حق المبادرة وبالتالي المشاركة الفاعلة في ثقافة المجتمعات التي يعيشون فيها.
هذا النمط من العزلة هو من افراز التاريخ لهذا فهو فيزيقي بامتياز، وقابل للتحليل والتفكيك، بحيث تعرف اسبابه وحيثياته وما يترتب عليه سايكلوجيا وسوسيولوجيا لدي الافراد او الجماعات التي تتعرض للاقصاء والتهميش.
والمهاجرون في فرنسا هم المثال... لكنهم ليسوا الوحيدين الذين عاشوا هذه التجربة القاسية، وحين شاهدت المباني البيضاء التي يعيش فيها أبناء وأحفاد الجزائريين بالقرب من مدينة مونبلييه في الجنوب الفرنسي وعرفت انهم يدفعون ثمن مواقف آبائهم الذين انضموا الي الجيش الفرنسي في الحقبة الاستعمارية، أدركت علي الفور ان هذا النمط من العزلة يحاصر هوية المعزول، ويحولها في النهاية الي فولكلور كأن تتلخص في انواع من الاشربة والاطعمة والطقوس الدينية في مواسم معيّنة اضافة الي الرقص الشعبي والغناء...
وجميع الافراد او المجموعات البشرية التي حكم عليها بالتهميش، عانت من أنيميا متعددة الأبعاد ليس فقط في الدورة الدموية للغتها وثقافتها وعافيتها الاجتماعية، بل في صميم الهوية أيضا، لأن هذا النمط من الهويات ينتجها الآخر عبر الإقصاء والنّبذ، فهي ردود أفعال ولا شيء آخر، وقد يتطلع ضحايا هذه العزلة الي الاندماج لكنهم يفشلون في تحقيقه تماما كما تفعل بعض الاقليات في العصور الذهبية للدولة القومية، عندما يتقمص أفرادها لغة الآخر وأزياءه وينتسب اليه جملة وتفصيلا، وقد لاحظت خلال الاعوام الاخيرة ان بعض الفلسطينيين ممن يعيشون في المنفي، وقد استبد بهم اليأس من العودة، قد بدأوا يتقمصون الآخر المضيف خصوصا في الحالات التي تكون فيها الام لبنانية او شركسية مثلا، وهناك حالات اعرفها جيدا وقد تصلح لدراسة معمّقة في مقام آخر.
العزلة الثانية: يمكن تسميتها العزلة البيرديائيفية نسبة الي المفكر الروسي برديائيف الذي حلّق خارج السرب الماركسي وبعيدا عن موسيقي اكتوبر الحمراء. انها عزلة فلسفية رغم ان لها بعدا سياسيا وايديولوجيا، لهذا لم يستطع برديائيف الاندماج في السياق العام، واحتفظ لنفسه بالمسافة وهي باهظة التكلفة في حالات كهذه.
ومن اقرب العزلات الي هذه العزلة، ما اختاره اللامنتمون في مختلف البلدان والثقافات من اصغاء خاص لمقاطع ليلية في ظهيرات الاخرين، وهؤلاء، قدم كولن ويلسون في خمسينيا ت القرن الماضي سجلا وافيا بهم بدءا من الفلاسفة مثل نيتشة وشوبنهاور والادباء من طراز هنري باربوس وليس انتهاء بالفنانين والمؤرخين مثل فازلاف نجنسكي راقص الباليه الروسي وكل من توينبي وشبنجلر.
العزلة البيرديائيفية، اختيارية لكن لها قوة القدر، لأنها تلبي هاجسا ونداءً داخليا ووجوديا لا سبيل الي تجاوزه، لكنها كما عبّر عنها البير كامو وهو صاحب مفهوم خاص للعزلة ليست قطيعة بقدر ما هي تواصل بطريقة أخري. وما قاله كامو ان المثقف ينعزل لكي يكون مع الناس، لكن ليس بالمعني الاجتماعي اليومي والساذج للتعايش، وكانت احدي قصصه في مجموعة المنفي والملكوت بعنوان عزلة الفنان تجسيدا لهذا المفهوم.
ان ما يفرض هذا المستوي من العزلة او الانعزال بمعني أدق هو التباين الشديد بين نمطين من الوعي، احدهما مطابق للواقع والآخر مفارق له، وحين يكون الوعي مفارقا تصبح الحاسة النقدية مشحوذة وفي ذروة حدتها، ويكون المجال فسيحا وحيويا للمقارنة او المباعدة بين الواقع والحلم، وبين المعطي والمتخيل، خصوصا اذا فهمنا الخيال بطريقة أخري مغايرة لمعناه الرومانسي، انه كما عرفه ارنست فيشر في كتابه ضرورة الفن واقع مركّز، لأنه ذاكرة معاد انتاجها، وما من خيال شيطاني معزول عن الذاكرة وعن جذور المشاهدات والمحسوسات والمسموعات في الواقع، وغالبا ما تبدأ هذه العزلة بعزف أولي ومنفرد وقد يكون عزفا بلا اوتار، لكنها سرعان ما تتعمّق، وتتسع الهوة بين الذات والاخر بحيث لا تعود الكلمات هي ذاتها في اللغة الواحدة، فكلمة موت مثلا او حزن او خياتة لها دلالات مختلفة واحيانا متناقضة لدي الجماعة المتّسقة والمندمجة ولدي الفرد المنعزل. لهذا لم يبالغ باحث الماني عندما قال ان السور الذي شطر برلين الي مدينتين شطر اللغة ايضا، ولم تعد الكلمات الالمانية تعني الدلالات ذاتها لدي من يعيش غرب السور ومن يعيش شرقه، ويختار عيّنات من هذا المعجم اللغوي مثل كلمة الدولة، والشرطي والوظيفة والحزب والرفيق... والسبب كما يري هو التباين بين مناخين ثقافيين فالكلمات تقترن بدلالات ذات تاريخ نفسي واجتماعي وسياسي ايضا، لهذا يمكن لأي باحث ان يجري تجربة علي انسان جائع بحيث يسرد له قائمة من اسماء الطعام التي لا يعرفها ولم يسبق له ان شمّ رائحتها او تذوّقها، فلا يسيل لعابه، لكن هذا اللعاب يتدفق اذا ذكرت امامه اسماء اطعمة يعرفها.
ہہہ
والعزلة الثالثة: تقتصر علي البعد السايكولوجي فقط، بحيث يختار هذا المستوي من العزلة فرد تغيّر موقعه الطبقي، كأن يكون قد خسر في تجارة او أصيب بحادث جرّده من مظاهر الثراء. وقد تكون هذه العزلة من أدني العزلات، لأنها لا تتأسس علي اختلاف في الوعي أو المفاهيم، واذا قدر لمن اختارها ان يظفر مرة اخري بما يؤهله للانتساب الي الطبقة التي انسحب منها فإنه يعود بكامل ادواته ومصطلحاته ومفاهيمه، لأن كل ما اراد فعله هو ان يحتجب وينأي بنفسه عن سياق طبقي واجتماعي لم يعد يملك من المؤهلات ما يرشحه للانتساب اليه، عبر انديته ومدارسه وكل المظاهر السّنوبية التي ترضي نرجسيته الجريحة بالاستعراض من اجل التعويض.
لهذا لا تكون هذه العزلة نهائية، الا بالقدر الذي تستمر به اسبابها، فهي عزلة غير اصيلة وأفضل ما يمكن ان تسمي به انها عزلة وقائية.
أما العزلة الرابعة: فهي تلك التي تنشأ منذ الطفولة وبواكير الاسئلة والهواجس، ومن يختارها فهو كائن لم تلق الاجابات التقليدية اي هوي لديه، لأن اسئلته جذرية، ومن طراز غير متداول، واحيانا غير مسموح به، فهي تتناول الاعراف والتقاليد والعقائد، وبها من الشك سواء كان منهجيا علي طريقة ديكارت او عفويا ما يحصّن وعي صاحبها من التدجين، وهناك تجربة علمية وميدانية تستحق ان تروي في هذا السياق لأنها تضيف الي ما اود قوله نظريا بعدا واقعيا ومن صميم الحياة...
فالتجربة التي اجراها العالم آردري علي طفل وقرد في سنوات الطفولة المبكرة، اوضحت له بأن القرد يتفوق علي الطفل البشري في قدرته علي المحاكاة، لكنه بعد ذلك يتوقف عن النمو بينما يواصل الطفل نموه ووعيه وقدرته علي الاستبصار. ومن يستمرون في المحاكاة طلبا للاندماج والاعتراف بأنهم افراد ذائبون في القطيع لا يفعلون شيئا ذا شأن، رغم انهم يكدحون طوال العمر لكي يعيشوا فقط، وبمعني آخر لكي يموتوا فقط لكن كسائر الناس.
العزلة الرابعة، هي بمعني ما البعد الرابع المحذوف من مصطلح تناوب عليه الفيلسوف والمتدين والمربي والسلطة بمختلف تجلياتها...
انها تحدث لأن الوعي المفارق هو ما يرسم تضاريسها بقلم الرصاص او الفحم، لكنها تتحول بعد ذلك الي جيولوجيا مليئة بالاحافير لأن الهوة تشمل اللغة ودلالاتها، والمفاهيم الكبري حول الحياة والموت والجسد، لهذا فهي تزاوج علي نحو فريد بين الفيزيقي والميتافيزيقي، وبين التاريخ والطبيعة، لأنها اضافة الي كونها احتجاجا وعصيانا علي قوانين الامتثال والقطعنة، تهدف الي تحرير الواقع من خموله الناتج عن الألفة والتكرار.
انها باختصار رقصة وحشية يمارسها جسد يبتكر ايقاعاته وموسيقاه...
ان العزلات الأربع ليست درجات كتلك التي تصنف بها الغيبوبة، لأنها لا يلد بعضها البعض الآخر، فهي أقاليم روحية وذهنية وليست درجات في سلم واحد!
عن القدس العربي