كثر الحديث مؤخراً عن الارتداد إلي القبيلة والطائفة في المجتمع العربي الحديث، وكأن العرب قد دفعهم الحنين إلي الماضي، إلي العودة إلي مرحلة ما قبل الدولة الحديثة، وبدأت تتسع مخاطر تحول النظم السياسية العربية إلي كيانات وتجمعات طائفية ومذهبية وعشائرية، الأمر الذي يثير الشكوك بجدية مشاريع التنمية والتحديث والإصلاح والديمقراطية. فعلي سبيل المثال أجمعت كافة الآراء والتحليلات التي تناولت الانتخابات النيابية التي جرت في الأردن مؤخراً علي أنها انتخابات عشائرية، وأن العشيرة هي الحزب الأكبر في البلاد، وقبلها علق عالم الاجتماع المصري الشهير السيد ياسين علي الانتخابات البرلمانية في البلاد بأنها انتخابات قبلية، ولا يختلف الحال كثيراً عن الانتخابات التي شهدها العراق والتي كرست المذهبية وأخيراً فإن أزمة الرئاسة في لبنان كانت في احد أبعادها نتاج عوامل مذهبية طائفية.
أما علي الصعيد العالمي فلا تزال العديد من الدول الأفريقية والآسيوية تدفع أثمانا باهظة في مواسم الانتخابات برلمانية كانت أو بلدية أو رئاسية نظراً لإخفاق هذه الدول في تحقيق الاندماج القومي في مرحلة ما بعد الاستقلال، ولغياب مفاهيم وقيم المواطنة وبالتالي سيطرة الاعتبارات الإثنية والمذهبية والقبلية.
ولما كان المجال لا يتسع في هذه الحالة للوقوف علي عوامل وأسباب وآثار ونتائج تراجع الدولة كمؤسسة سياسية حديثة أمام هذه البني التقليدية طائفية كانت أو اثنية أو قبلية، فإن الحديث عن المواطنة كوصفة طبية للعصبيات والولاءات الضيقة، قد يكون الخطوة الأولي في إلقاء أضواء كاشفة علي أحد جوانب هذا الموضوع.
مفهوم المواطنة: إطلالة تاريخية
تعود جذور مفهوم المواطنة citizenship إلي الفكر السياسي اليوناني، ويعني المفهوم ابتداء العضوية في مجتمع سياسي تكون فيه لدي الفرد القابلية لأن يحكم أو يُحكم، مما يعني المشاركة السياسية الفاعلة وأيضاً المساواة أمام القانون. وهكذا نجد ارتباطا وثيقا بين مفهوم المواطنة والديمقراطية. إلا أن المواطنة اليونانية كانت مقتصرة علي فئة قليلة من السكان، فالعبيد والغرباء لم يتمتعوا بها، فضلاً عن أنها أخذت طابعاً ذكورياً فقد كانت امتيازا يمنح للرجال فقط. وقد اتسعت فكرة المواطنة من حيث التطبيق في الحضارة الرومانية فشملت تقريباً معظم رعايا الإمبراطورية وكذلك اتسع المفهوم من مجرد هوية سياسية وانتماء للدولة وما يترتب علي ذلك من نشاط سياسي إلي الإطار القانوني.
إلا أن فكرة المواطنة قد دخلت مرحلة تحول هام بعد قيام الثورة الفرنسية، إذ أصبحت حقا إنسانياً طبيعياً يتمتع به الجميع علي قدم المساواة، فقد جعلت الثورة الفرنسية المواطنة حقاً قانونياً وسياسياً بإعلانها حقوق الإنسان والمواطن The Declaration of the Rights of Man and Citizen وقد كان للأفكار التي جاء بها فيلسوف الثورة جان جاك روسو دور رائد في تأكيد هذا الحق الإنساني، ففي مؤلفه العقد الاجتماعي The Social Contract حدد معالم مفهوم المواطن وحقوقه وواجباته فهو شخص حر ومستقل، ولكونه عضوا في مجتمع سياسي، فإن له الحق في المشاركة في صنع القوانين واتخاذ القرارات التي عليه واجب احترامها والتقيد بأحكامها.
ومع تنامي النشاط التجاري وصعود التيار أو الفكر الرأسمالي، ونتيجة التناقض بين مصلحة الفرد ورغباته والمصلحة العامة أو مصلحة الجماعة فقد تقلص مفهوم المواطنة إلي الإطار القانوني بحيث أصبح يعني مجموعة الحقوق الطبيعية التي تتضمن الحريات الفردية مثل حرية التعبير وحرية الاعتقاد وحق الملكية الخاصة والحق في العدالة وغيرها من الحقوق والحريات التي يمتلكها الفرد في مواجهة الدولة وتسلطها.
وفي ما يخص العالم الإسلامي في هذا الإطار فإن غياب فكرة المواطنة وانقسام المجتمع إلي رعايا وأهل ذمة وطوائف وملل ونحل قد لعبا دوراً هاماً في انقسام وضعف وتفكك دولة الخلافة العثمانية، حيث برزت إلي السطح فكرة الأقليات أو ما سمي حينذاك بالمسألة الشرقية، الأمر الذي أدي إلي فتح الباب أمام التدخل الأجنبي السافر في شؤون الإمبراطورية العثمانية بحجة حماية حقوق ومصالح الأقليات. واليوم يعيد التاريخ نفسه فقد أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية حامية حقوق الأقليات في العالم بشكل عام والوطن العربي بشكل خاص.
وفي مرحلة لاحقة تطور المفهوم نتيجة عوامل متعددة منها العولمة والهجرة العالمية وظهرت أشكال جديدة للمواطنة مثل المواطنة ما بعد الوطنية Post national Citizenship والمواطنة العالمية Global Citizenship والمواطنة الاقتصادية Economic Citizenship وغيرها من المفاهيم التي تدل علي أشكال جديدة من المواطنة.
المواطنة والديمقراطية:
تاريخياً كان ميلاد الديمقراطية مرتبطا بفكرة المواطنة وفي مرحلة لاحقة لعبت المواطنة دوراً حيوياً في نشوء وتشكيل المجتمعات الليبرالية الديمقراطية ولا سيما في ديمقراطيات أوروبا الغربية مثل بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. فالمواطنة البناءة مواطنة مشاركة تمثل شرط تقدم المجتمع نحو تعزيز الديمقراطية، فهي قيمة وسلوك يتمثلان بضرورة المشاركة في الحياة العامة. ولا شك أن قيم وسلوكيات المواطنة تتجذر بتطور المجتمعات ووعيها وإيمانها بحقوقها وواجباتها.
وهذا يستدعي وجود المؤسسات الديمقراطية وعلي رأسها مؤسسات المجتمع المدني من نقابات ومنظمات أهلية وغيرها من المؤسسات التي تقلل من هامش التبعية للسلطة، والمجال السياسي عموماً، وتشكل فضاءً للمواطن للمبادرة والمشاركة وتحمل المسؤولية، فالمواطن في النظام الديمقراطي شريك أساسي في اللعبة السياسية، وهو في سعيه نحو مزيد من الحرية والمساواة والكرامة يجسد المعني الحقيقي للمواطنة ويسهم في بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات، الأمر الذي ينعكس ايجابياً علي مسيرة الديمقراطية في النظام السياسي.
المواطنة والهوية
إن الهوية هي ضرورة لا غني عنها للمواطنة إذ لا بد من نظام سياسي للمواطنين يحدد أسس التفاعل وينظم العلاقات بينهم، وأيضاً بين حقوقهم وواجباتهم. فالهوية هي بمثابة المنظار الذي يري من خلاله المواطنون الأحداث والتطورات وكذلك المشاكل والتحديات التي تواجه الوطن وهكذا تصبح الهوية المعيار الذي يمكن من خلاله تحديد مصالح الوطن واحتياجاته. فعلي سبيل المثال لو نظر أهل السودان إلي مشاكلهم من منظار أنهم سودانيون بغض النظر عن أية اعتبارات أخري كالعرق واللغة والدين وغيرها لكان الوصول إلي حل لمشاكل السودان المتعددة أكثر سهولة ويسرا، ولتفادي السودان مشكلة التدخل الأجنبي. فالهوية الوطنية تجمع السودانيين بينما العوامل الأخري تفرقهم. كما أن غياب الهوية الواحدة الجامعة في أي نظام سياسي ديمقراطي أو تسلطي هو بلا شك دافع للتنازع والاختلاف وعدم الاستقرار. كما أن تعدد الهويات داخل الوطن الواحد يؤدي إلي إضعافه وتمزيقه، فلا مكان في الوطن الواحد إلا لهوية وطنية واحدة، ولسنا بحاجة لذكر الأمثلة في هذا الصدد لإثبات صحة هذه الحقائق.
تجاوز مسألة التعددية الطائفية
إن السؤال الذي يثور في الذهن الآن هو كيف يمكن لمفهوم او قيم المواطنة أن تجد مكاناً لها في الدولة أو المجتمع الذي يعاني من تعددية عرقية أو لغوية أو دينية أو قبلية أو جهوية، وما يترتب علي هذه التعددية من تنافس وتنافر وانقسام وعدم تجانس في المجتمع أو الدولة الواحدة؟ أو بلغة أخري كيف يمكن أن نحافظ علي الوحدة والانسجام كمواطنين في الدولة في إطار التنوع والاختلاف؟
إن هذه الإشكالية التي تعاني منها معظم دول العالم الآن ولا سيما في ظل تنامي أعداد المهاجرين يمكن التغلب عليها بالعودة إلي التجارب الماضية. فعلي سبيل المثال واجهت هذه المشكلة الولايات المتحدة الأمريكية في الماضي، فقد كانت مشكلة الزنوج تمثل تحديا كبيرا للمجتمع الأمريكي ولا سيما من جهة انها كشفت عن زيف الديمقراطية الأمريكية حيث كان الزنوج لا يتمتعون بكثير من حقوق المواطنة، إلا أن الولايات المتحدة نجحت في تجاوز هذه المشكلة باستخدام الأساليب الديمقراطية، فالحوار والعدالة والثقافة المدنية وسيادة حكم القانون والاتفاق علي قواعد اللعبة السياسية هي الطريق التي سلكتها الولايات المتحدة في سبيل حل مشكلة التعددية العرقية (مشكلة الزنوج) وبالتالي تعزيز الوحدة الوطنية وتثبيت دعائم النظام الديمقراطي.
فالولايات المتحدة اليوم هي أمة واحدة رغم أنها تكونت في الأصل من أجناس متعددة وديانات متباينة ولغات مختلفة وثقافات متناقضة لكنها صهرت كل هذه المتغيرات في بوتقة واحدة وجعلتها شيئاً واحدا متجانسا أو ما يعرف بـ Melting Pot، ويمثل نجاح المرشح الديمقراطي باراك أوباما في الترشيح لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في الانتخابات القادمة قمة التجسيد لمفهوم المواطنة. فهذا المواطن ذو الأصول الأفريقية غير البعيدة قد يصبح الرجل الأول في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولاحقاً نجحت كل من الهند وجنوب أفريقيا في تجاوز مسألة التعددية الطائفية فيما أخفق عدد غير قليل من دول العالم الثالث في ايجاد حلول لهذه المشكلة. وهنا فإن المرء يتساءل عن سر إخفاق المجتمعات العربية في الاستفادة من تجارب الشعوب التي سبقتنا في هذا المضمار؟ ان مسائل ضعف الانتماء الوطني وغياب الديمقراطية وعدم احترام حقوق الإنسان في العالم العربي تلعب دوراً أساسياً في إضعاف مفهوم وقيم المواطنة وبالتالي تكريس النزعات والولاءات الضيقة عرقية كانت أو لغوية أو دينية أو قبلية، ذلك أنه أمام القوة التدميرية الهائلة للدولة يضطر المواطن إلي الارتداد الي القبيلة أو الطائفة أو الإقليم، الأمر الذي ستكون له آثار كارثية علي مستقبل هذه المجتمعات.
فهل نعيد صياغة هويتنا الوطنية علي أساس قيم المواطنة؟ إن هذه مسؤولية تقع علي عاتق الدولة والمجتمع معاً ولا سيما ان مصلحة الطرفين تقتضي تعزيز قيم وسلوكيات المواطنة، ذلك أنها السبيل الأقصر والضمانة الأكيدة لتنمية المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وعلاوة علي ذلك إدارة أوجه الاختلاف فيه وفق قواعد اللعبة الديمقراطية وأيضاً مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بواسطة جبهة وطنية واحدة.
وختاماً يمكن القول ان جوهر فكرة المواطنة هو المشاركة والمبادرة والتفاعل مع الواقع وهنا فإن للمثقفين دوراً هاماً في هذا السياق، إذ لا يجوز للمثقف أن يصمت أو يغيب أو يُغيب ولا سيما حينما يتعلق الأمر بقضايا الوطن أو المواطنة أو المسائل التي تثير اهتمام الرأي العام، ولا شك أن المشاركة في مؤسسات المجتمع المدني وعلي رأسها الأحزاب السياسية هي الخطوة الأولي في هذا المجال ذلك ان الأحزاب السياسية هي عماد الديمقراطية لا بل إن العداء للأحزاب السياسية هو عداء مبطن للديمقراطية، نأمل أن تبقي هذه الأفكار حية في الذهن، دافعة إلي انجاز هذا العمل العظيم